اسطنبول تنسحب من اسطنبول
نور صالح
أفعمت الشوارع التركيّة منذ دقّ جرس منتصف ليلة الواحد من الشهر الفارط بالاحتقان والغضب، وذلك إثر تفعيل الانسحاب الرسمي من صفقة اسطنبول، الموقعة باسطنبول في الحادي عشر من ماي 2011، شاملة 45 دولة أوروبيّة ممضية على وثيقة الـ25 صفحة الملّمة بنصوص ضامنة لحقوق المرأة وحمايتها من شتّى أنواع العنف المادي، الجنسي والمعنوي في زمن طالت فيه التجاوزات حدود الخيال.
قبل أن نباشر إحصاء الجرائم ونندد بهذا القرار الأحادي العشوائي الصادم -على تعبير معظم المجتمع المدني التركي و مختلف أطراف المجتمع الدولي
“أنا مستاء من هذا القرار.” – جو بايدن (Joe Biden)
لنحاول وبعد إضائة ما قيل، إدناء الستار عن ما لم يقل علّنا نقترب من فكّ أحجية الغموض التركي.
ما يجب على بادئ ذي بدء التطرق إليه بعد عقد من الزمن، هو أن هذه المبادرة المعروفة بإسم وثيقة إسطنبول أمست بشكل غير متوقع معركة بالوكالة من أجل الحروب الثقافية والإيديولوجية الأكبر التي تختمر بين أوروبا الشرقية والغربية. فقد حظت التغطية الإعلامية لتصريحات الرئيس طيب أردوغان باهتمام ليس بالمريب، نظرا لموضعه الحرج في المشهد السياسي العالمي في السنوات الأخيرة، غير أن تركيا ليست سوى طيرا من سرب أوروبا الشرقية المديرة ظهرها للوثيقة، الواحدة تلو الأخرى، مدعية أنها ستؤدي إلى تآكل نسختها من “القيم العائلية”. وقد أشارت بولندا إلى أنها تشكك في الإتفاقية، كما وقعت دول أوروبية أخرى، مثل المجر وبلغاريا، وجمهورية التشيك، على الوثيقة لكنها لم تترجم أحكامها إلى قانون
.
“نعم للعائلة، لا للجندر.” – الحكومة الهولنديّة
برر هذا رد فعل هولندا العنيف على نزاع دلالي لم يكن محور التركيز الرئيسي لمؤلفي الوثيقة قبل 10 هسنوات: كيف بالضبط يحدد ‘الجندر’؟ فبالنسبة لمجموعة من القادة الأوروبيين المحافظين إجتماعيا -بشكل متزايد- فإن تعريف الوثيقة هو وسيلة خفية لتقويض الفروق بين الرجال والنساء و’التطبيع’ مع المثلية الجنسية. بالنسبة للباقي فالقضية ليست التعريف، ولكن ما يرون أنه تفكير ذو دوافع سياسية انتشر باستخدام المعلومات المظللة.
“حقوق المرأة هي حقوق الإنسان ” – هيلاري كلينتون
عيب في حق المناضلات النسويّات على مرّ الأزمنة لومضينا قدما في تحليلنا دون ومضة تاريخيّة طفيفة توقد في ذاكرتنا رحلة الأكثر من 2400 عام باعتبار السيدة Agnocide أوّل المناضلات النسويّات في ثورتها ضدّ الممارسات الجينيكولوجيّة الخادشة بحرمة المرأة الجسديّة، موضوع للأسف لايزال قيد النقاش بعد عشرات القرون في بعض الدول كمصر، إيران، باكستان وغيرها. وقد عرف هذا الطريق الوعر عدّة محطات وعدّة رائدات، نخّص منها بالذكر سوجورنر تروث (1883 – 1997)، واحدة من أبرز مؤيدي حركة التحرير من العبوديّة وأوّل إمرأة من أصل إفريقي تفوز بقضيّة ضدّ رجل أبيض وتحرّر إبنها. في مرحلة متقدّمة، عرفنا سوزان أنتوني (1820 – 1906) التي لعبت دورا محوريّا في حصول المرأة على حقّ الاقتراع وغدت أوّل إمرأة تصوّت بالانتخابات وسميّ من بعدها مقترح التعديل الـ19 الذي قدمته إلى الكونغرس. ثمّ فريدا كاهلو وسيمون دي بوفوار ويوري كوشياما وصولا إلى إيما واتسون، لنشمل كلّ نساء العالم المناضلات يوميّا من أجل الحريّة والكرامة في مجتمعات لا تزال تفتقر فيها إلى أدنى حدّ من العدالة، ونخّص هنا بالذكر المجتمع التركي.
يتواصل العنف ضد المرأة وجرائم الشرف في تركيا. ويعود العديد من المحللين بالقول أنّ الأصل يعود لتركيبة المجتمع الباطريركيّة ونظام الحكم الفاشي. فيصّرح جوك يازار(Gocke Yazar) من نقابة المحامين في سانليورفا بعد مقتل سيرين أزدمير من قبل زوجها، جريمة هزّت الرأي العام التركي في 2019، أن الهياكل الأسريّة الأبويّة والعادات الثقافيّة هي المشكلة الأساسية، وأنه من الطبيعي للمرأة التي يهددها زوجها وتخشى على حياتها أن تطلب الحماية من الدولة. الأحكام القانونيّة واضحة، لكن رغم ذلك، غالبا ما يقال لها، ‘إرجعي إلى زوجك’.
في السنة الاخيرة وحدها سجّلت تركيا أكثر من 300 جريمة في حقّ النساء، أتى تحقيق بعضها بكونها مرتكبة على يد قريب أو شريك حياة، وتاه البعض الآخر في مجاري النسيان جرّاء عدم توّفر ما يكفي من الأدّلة، لتصنّف على أنها انتحارات مشبوهة. إضافة إلى ذلك، تحتل تركيا المرتبة 133 من 156 دولة في تقرير الفجوة العالميّة بين الجنسين لعام 2021. ووفقا لبيانات هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تواجه 38 في المائة من النساء في تركيا عنفا من شريك في حياتهن، ولا تحتفظ الحكومة التركيّة بأي سجلات رسميّة بشأن قتل النساء. كما يشير التقرير الصادر عن KAGIDER (جمعيّة رائدات الأعمال في تركيا) إلى أنّ العنف ضدّ النساء وقتل النساء كان مرتفعا بشكل مثير للقلق حتّى قبل أن تتخلّى تركيا عن الاتفاقيّة. ومع ذلك يشعر الناس بالقلق من أنّ الحقوق والحماية الاساسيّة للمرأة التركيّة ستتعرّض لتهديد أكبر الآن .
ويجدر التنويه بأن هذه الخطوة تأتي في وقت اشتدّ فيه العنف المنزلي ضدّ النساء والفتيات في جميع أنحاء العالم وسط جائحة Covid -19.
‘بما أنّ مكافحة العنف ضدّ المرأة لم تبدأ بهذه المعاهدة، لن ينتهي التزامنا فور انسحابنا.’ هكذا ردّ أردوغان على النقد اللاّذع، دون الانتباه إلى كون المؤشرات في ارتفاع مرعب بوجود المعاهدة، فما هو مصير حقوق المرأة التركية دونها ؟
المصادر :
https://www.dw.com/en/femicides-in-turkey-a-problem-that-is-being-ignored/a-51587652
https://www.dw.com/en/femicides-in-turkey-a-problem-that-is-being-ignored/a-51587652
https://www.bbc.com/news/world-europe-56516462